الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
لما كانت الكوثر علة للنهي عما تضمنه التكذيب من مساوئ الأفعال، وعلم بها أنه صلى الله عليه وسلم مختص بالخير المستلزم لأن شائنه هو الأبتر، فكان موضع السؤال عما يفعل مع الشانئين من معاركه أو متاركة، جاءت الكافرون للمتاركة لقلة أهل الدين إذ ذاك، إشارة إلى أن هذه الدار مبنية على الأسباب، فعلم بالكافرون أن الشانئ مما لا يعبأ به، فتحركت النفس إلى سؤال عن وقت الصلاحية للمعاركة بعد هذه التاركة، وما يترتب على المعاركة من قهر الشانئ بالفعل، فجاءت سورة النصر لذلك الإشارة إلى أنه مما لا يسأل عنه بمتى، لتغبير ذلك في وجه الإحسان في التسليم، وإنما يسأل عما يفعل عندوعه من الإحسان في التعبد، معبرا بأداة التحقق إعلاما بأنه آت لا محالة، فالسؤال عن وقته ليس من دأب السائرين، ولما ظهرت ذخائر هذه الكنوز بدقائق تلك الرموز، وما انضم إليها من القرائن الظاهرة، استحضرت حال أبي لهب لما كان فيه مع قرأبته القريبة من شدة العناد، والاجتهادج العظيم في كل ما يضاد أشرف العباد واشتد التشوف إلى اتقلاب حاله إذا ذاك هل يكون بما ختمت به النصر من التوبة أو بخذلانه وانقلابه بأعظم الخيبة والحوبة؟ فجاءت سورته لذلك بينا لأنه غلب عليه الشقاء فنزل به في دركاته مانعا من معالي درج الارتقاء، فلما بين سبحان بذلك إهلاكه عدوه صلى الله عليه وسلم، وختم بأعدى أعدائه فحكم بهلاكه، وهلاك زوجه هلاكا لا جبر له على وجه مبين أنه في أدنى دركات الحقارة، وأعظم أنواع الخسارة، فرقص الفكر طربا من هذه الأمور، وسكر اللب من عجائب المقدور، واهتز السامع غاية الاهتزاز إلى وصف الفاعل لذلك الذي هو خارج عن طوق البشر، وخارق للعوائد، وهو إظهار شخص وأحد على الناس كافة مع شدة عداوتهم له، جاءت الإخلاص كاشفة لما ثبت من العظمة لولي النبي صلى الله عليه وسلم سبحانه وتعالى الذي أمره بهذا الدين وفعل له هذه الأمور- العظيمة الموجبة لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لئلا يستبعد عليه سبحانه وتعالى شيئا من ذلك ولا غيره، وإن تمثيل جميع ما يأم ربه كلائنا ما كان وكائنا فيه ما كان على أن يوجه كان موافقة لأمره وطاعة له ومنبئة للاعتقاد الحق الذي أوجب هذه النصرة، واردة على جميع فرق الضلال، هذا في انعطاف الآخر على الأول بالنسبة إلى السور- من أعظم المناسبات في ذلك بالنظر إلى الآيات أنه سبحانه شرح بالفيل وما بعدها من السور آيات الفاتحة كلها ثم- من أول البقرة إلى آية التوحيد، فأشار بالفيل إلى استجماعه لصفات الكمال بأن له الحمد بما حرس من بيته من الملوك ووحماه من كيد الجبابرة وأحسن التربية لقريش الذين هم أشرف العالمين وبصلاحهعم صلاح بلدتهم أم القرى، وبصلاحها صلاحها فدل ذلك لى أنه يدين العباد يوم التناد، ولذلك أعطى رأس الهداة الدين الذي أفرده العبادة ولاستعانة بالكوثر، وهداه إلى الصراط المستقيم وأعاذه من طريق الكافرين المعاندين والضالين، وأشار أول البقرة إلى دخول المتقين- الذين الكتاب هدى لهم- في الدين أفواجا وإن أغنى أهل الكفر وأعتاهم سواء عليهم الإنذار وعدمه في لأنه لا يؤمن وهو أبو لهب ومن سار بسيره من مجاهر ومساتر ويعمهم الخسار، ويشملهم الهلاك والتبار، بحكم الواحد القهار المأمور بعبادته وتوحيده في الآية الجامعة لدعوات التوحيد{يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] المتصف بما في سورة الصمد التي لم ينزل في وصفه مثلها، فتم الدين عند ذلك بما له سبحانه من كمال الأوصاف، وجلال النعوت بالجبروت والألطاف فلم يبق إلا تعويذ أهل الدين من أن يدخل عليهم خلل، أو يلحقهم نزع أو زلل، فختم بالمعوذتين لذلك، والله المسؤول في الإنعام بعائد السؤل لكل سالك.ولما كان المقصود من القرآن دعوة العباد إلى المعبود، وكان المدعو إلى شيء أحوج ما يكون إلى معرفته، وكان التعريف تارة للذات وتارة للصفات وتارة للأفعال، وكانت هذه الأمة- أشرف الأمم لأن نبيها أعلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكان هي الختام، أشبع الكلام في تعريفه سبحانه في القرآن، وأنهى البيان في ذلك إلى حد لا مزيد عليه ولم يقاربه في ذلك كتاب من الكتب السالفة، ولكنه لما كان الكبير إذا تناهى كبره عزت معرفة ذاته، وكان الله تعالى هو الأكبر مطلقًا، وكانت معرفة ذاته- كما أشار إليه الغزالي في الجواهر، والفخر الرازي في كتبه- أضيق ما يكون مجالًا وأعسره مقالا، وأعصاه على الفكر منالًا، وأبعده عن قبول الذكر استرسالًا لأن القرآن لا يشتمل من ذلك إلا على تلويحات وإشارات أكثرها رجع إلى ذكر التقديس المطلق كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 112] وإلى التعظيم المطلق كقوله: {سبحانه وتعالى عما يصفون} فكام القياس أن يقتصر على ذلك مع التعريف بالصفات والأفعال، لكن لما كانت هذه الأمة في الذروة من حسن الأفهام مع ما نالته من الشرف، حباها سبحانه وتعالى بسورة الإخلاص كاملة ببيان لا يمكن أن تحتمل عقول البشر زيادة عليه، وذلك ببيان أنه ثابت ثباتًا لا يشبهه ثبات على وجه لا يكون لغيره أصلًا، وأنه سبحانه وتعالى منزه عن الشبيه والنظير والمكافئ والمثيل، فلا زوجة له ولا ولد، ولا حاجة بوجه إلى أحد، بل له الخلق والأمر، فهو يهلك من أراد ويسعد من شاء، فقال آمرًا لنبيه صلى الله عليه وسلم ليكون أول كلمة فيها دالة على رسالته ردًا على من كذبه في خاصة نفسه وعلى البراهمة القائلين: إن في العقل غنى عن الرسل.ويكون البيان جاريا علي لسانه صلى الله عليه وسلم ليكون إلى فهم الخلق عنه لتلك الصفات العلى أقرب لما لهم به من المجانسة: {قل} أي يا أكرم الخلائق ومن لا يفهم عن مرسله حق الفهم سواه، وإطلاق الأمر بعدم التقييد بمقول له يفهم عموم الرسالة، وأن المراد كل من يمكن القول له سواء كان سائلًا عن ذلك بالفعل أو بالقوة حثًا على استحضار- ما لرب هذا الدين- الذي حاطه هذه الحياطة ورباه هذه التربية- من العظمة والجلال، والكبرياء والكمال، ففي الإطلاق المشير إلى التعميم رد على من أقر بإرساله صلى الله عليه وسلم إلى العرب خاصة، ويدل على أن مقول القول لا ضرر فيه على أحد فإن ظواهره مفهومة لكل أحد لا فتنة فيها بوجه، وإنما تأتي الفتنة عند تعمق الضال إلى ما لا- يحتمله عقله.ولما كان أهم المقاصد الرد على المعطلة الذين هم ضرب ممن يقول: {نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} [الجاثية: 24] أثبت وجوده سبحانه على أتم الوجوه وأعلاها وأوفاها وأجلاها بما معناه أن حقيقته ثابتة ثباتًا لا يتوجه نحوه شك بوجه من الوجوه، فقال مكاشفًا للأسرار- فإنه لا يمكن غيبته عنها أصلًا- وللوالهين: {هو} فابتدأ بهذا الاسم الشريف الذي هو أبطن الأسماء إشارة إلى أنه غيب الغيب بالنظر إلى ذاته كالألف، وإلى أنه واجب الوجود لذاته- وأن هويته ليست مستفادة من شيء سواها ولا موقوفة على شيء سواها، فإن كل ما كانت هويته مستفادة من غيره أو موقوفة عليه فمتى لم يتعبر غيره فلم يكن هو هو، وما كانت هويته لذاته فهو هو سواء اعتبر غير أو لم يعتبر، فإذًا لا يستحق هذا الاسم غيره أصلًا على أن الهاء بمفردها مشيرة- بكونها من أبطن- الحلق إلى أنه هو الأول والباطن المبدع لما سواه، والواو- بكونها من أظهر حروف الشفة- إلى أنه الآخر والظاهر، وأن إليه المنتهى، وليس وراءه مرمى، وأنه المبدئ المعيد- كما يشير إلى ذلك تكرير الواو في اسمها، وإلى أنه محيط بكل شيء لما فيها من الإحاطة.ولما كان وجوده سبحانه لذاته، ولم يكن مستفادًا من غيره، فإن ما استفيد وجوده من غيره كان ممكنًا، كان لا يمكن شرح اسمه الذي هو هو، لا اسم لحقيقة غيره يقوم من جنس ولا نوع ولا فصل لأنه لا جنس له ولا نوع له ولا سبب يعرف به، والذي لا سبب له لا يمكن معرفته إلا بلوازمه، واللوازم منها سلبية ومنها إضافية ومنها قريبة ومنها بعيدة، والتعريف بالإضافية وبالقريبة أتم من التعريف بالسلبية وبالبعيدة، لأن البعيد كالضاحك الذي هو بعد المتعجب بالنسبة إلى الإنسان لا يكون معلولًا لشيء بل معلولًا لمعلوله، وبالجمع بين السلبية والإضافية أتم من الاقتصار على أحدهما، فلذلك اختير اسم جامع للنوعين ليكون التعريف أتم، وذلك هو كون تلك الهوية إلهًا، فاختير لذلك اسم دال عليها وهو مختص غير مشترك، وهو أول مظاهر الضمير كما أن الهمزة أول مظاهر الألف، ولهذا قال بعضهم: الاسم الأعظم آخر الظواهر من الأسماء، ولهذا كانت كلها صفات له وهو أول البواطن، فقال مكاشفًا للأرواح وللموحدين: {الله} أي الموجود الذي لا موجود في الحقيقة سواه! هو المسمى بهذا الاسم، واختير هذا الاسم للإخبار عنه لدلالته على جميع صفات الكمال: الجلال والجمال ولأنه اسم جامع لجميع معاني الأسماء الحسنى، وهو أقرب اللوازم إلى الهوية الهوية لأنه لا لازم لها أقرب من وجوب الوجود الذي هو مقتضى الذات على ما هي عليه من الصفات، لا بواسطة شيء آخر، وبواسطة وجوب وجوده كان مفيضًا باختياره الإيجاد على كل شيء أراده، ومجموع الوجوب الذي هو سلب وحده الإيجاد الذي هو اختيار للجود بإضافة الوجود وإضافة للإلهية التي جمعتها الجلالة، وهي أقرب اللوازم إلى الذات الأقدس، ودل التعبير به على أنه لا مقوم للهوية من جنس ولا غيره ولا سبب، وإلا لكان العدول عنه إلى التعريف باللازم قاصرًا، وعلى أن إلهيته على الإطلاق لجميع الموجدات، فكان شرح تلك الهوية باللازم أبلغ البلاغة وأحكم الحكمة، لأنه- مع كونه هو الحق- مشيرًا إلى ما ذكر من الدقائق.ولما ذكرت الذات التي لا سبب لها ولا مقوم من جنس ونوع وغيره أصلًا بل هي مجرد وحدة وتنزه عن تركب لا كثرة لها ولا اثنينية بوجه، وعرفها باسم جامع الأنواع السلوب والإضافات اللازمة له هو أقرب اللوازم إليها، فانشرح وجودها المخصوص على ما هو عليه، فكان ذلك تعريفًا كاملًا لأن تعريف ما لا تركب فيه باللوازم القريبة في الكمال كتعريف المركبات بمقوماتها، فإن التعريف البالغ هو أن يحصل في النفس صورة مطابقة للمعقول، وكانت الزيادة في الشرح مطلوبة لأنها أكمل لاسيما في الأمور الباطنة الخفية، أتبع ذلك باسم سلبي إشارة إلى أن النظر في هذه الدار إلى جانب الجلال ينبغي كونه أعظم، وذلك الاسم قربه من الجلالة كقربتها من الهوية، فإنه دال على الوحدة الكاملة المجردة وهو متنزل الجلالة كما أنها متنزل الهوية، وهو كما أن الجلالة لم يقع فيها شركة أصلًا قد ضاهاها في أنه لا شركة لغيره تعالى فيه عند استعماله مفردًا بمعناه الحقيقي إلا أن في النفي إشارة إلى أن كل ما عداه سبحانه عدم، فقال مكاشفًا للقلوب وللعارفين مكذبًا للنصارى القائلين بالأب والابن وروح القدس، ولليهود القائلين بأنه جسم، وللمجوس الذين يقولون بأنه اثنان: نور يخلق الخير، وظلام يخلق الشر، وللصابئة الذين يعبدون النجوم، وللمشركين القائلين بإلهية الأصنام، مخبرًا خبرًا آخر، أو مبدلًا من الجلالة، أو مخبرًا عن مبتدأ محذوف: {أحد} وهو لأجل كونه خاصة في الإثبات حال الانفراد به تعالى معرفة غني عن (آل) المعرفة، وهو أعرق في الدلالة على صفات الجلال كما أن الجلالة أعرق في الدلالة على صفات الكمال لأن الواحد الحقيقي ما يكون منزه الذات عن أنحاء التركيب والتعدد وما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز والمشاركة في الحقيقة وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الكاملة والحكمة التامة المقتضية للألوهية من غير لزوم دور ولا تسلسل من جهة تركب أو غيره، وقرئ بإسقاط (قل) هنا وفي المعوذتين مع الاتفاق على إثباتها في الكافرون ونفيها في تبت، ولعل الحكمة أن الكافرون مخاطبة للكفار بما بين مشاققة ومتاركة، فناسب الحال أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم، وتبت معاتبة عم الرسول صلى الله عليه وسلم وتوبيخه فلا يناسب أن يكون ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، والباقيات ما بين توحيد وتعوذ، فناسب أن يؤمر بتبليغه وأن يدعو به، ورتب الأحدية على الإلهية دون العكس، لأن الإلهية عبارة عن استغنائه عن الكل، واحتياج الكل إليه، وكل ما كان كذلك كان واحدًا مطلقًا، وإلا لكان محتاجًا إلى أجزائه، فالإلهية من حيث هي تقتضي الوحدة، والوحدة لا تقتضي الإلهية، وعبر به دون (واحد) لأن المراد الإبلاغ في الوصف بالوحدة إلى حد لا يكون شيء أشد منه، والواحد- قال ابن سينا- مقول على ما تحته بالتشكيك، والذي لا ينقسم بوجه أصلًا أولى بالواحدية مما ينقسم من بعض الوجوه، والذي ينقسم انقسامًا عقليًا أولى مما ينقسم بالحس والذي ينقسم بالحس وهو بالقوة أولى من المنقسم بالحس بالفعل، وإذا ثبت أن الوحدة قابلة للأشد والأضعف.وأن الواحد مقول على ما تحته بالتشكيك كان الأكمل في الوحدة الذي لا يمكن أن يكون شيء آخر أقوى منه فيها، وإلا لم يكن بالغًا أقصى المرام، والأحد جامع لذلك دال على الواحدية من جميع الوجوه، وأنه لا كثرة هناك أصلًا، لا معنوية من المقومات من الأجناس والفصول ولا بالأجزاء العقلية كالمادة والصورة، ولا حسية بقوة ولا فعل كما في الأجسام، وذلك لكونه سبحانه منزهًا عن الجنس والفصل والمادة والصورة والأعراض والأبعاض والأعضاء والأشكال والألوان وسائر وجوه التثنية التي تثلم الوحدة الكاملة الحقة اللائقة بكرم وجهه وعز جلاله أن يشبهه شيء أو يساويه لأن كل ما كانت هويته إنما تحصل من اجتماع أجزاء كانت هويته موقوفة على حصول تلك الأجزاء، فلا يكون هو هو لذاته بل لغيره، فلذا كان منزهًا عن الكثرة بكل اعتبار، ومتصفًا بالوحدة من كل الوجوه، فقد بلغ هذا النظم من البيان أعظم شأن، فسبحان من أنزل هذا الكلام ما أعظم شأنه وأقهر سلطانه، فهو منتهى الحاجات، ومن عنده نيل الطلبات، ولا يبلغ أدنى ما استأثره من الجلال والعظم والبهج أقصى نعوت الناعتين وأعظم وصف الواصفين، بل القدر الممكن منه الممتنع أزيد منه هو الذي ذكره في كتابه العزيز، وأودعه وحيه المقدس الحكيم، وبالكلام على معناه ومعنى الواحد تحقق ما تقدم، قال الإمام أبو العبا الإقليشي في شرح الأسماء: فمن أهل اللسان من ساوى بينهما جعلهما مترادفين، فمنهم من قال: أصل أحد وأحد سقطت منه الألف ثم أبدلت الهمزة من الواو المفتوحة، ومنهم من قال: ليس أصله وأحد وإن كانا بمعنى وأحد، بل أصله وحد- من الوحدة- يحد فهو وحد- مثل حسن يحسن فهو حسن- من الحسن، أبدلت الواو همزة، وأما من فرق بينهما فمنهم من قال: أحد اسم على حياله لا إبدال فيه ولا تغيير، ومنهم من قال: أصله وحد، أبدلت الواو همزة- انتهى، وقد استخلصت الكلام على الاسمين الشريفين من عدة شروح للأسماء الحسنى وغيرها منها شرح الفخر الرازي والفخر الحرالي وغيرهما، قالوا: الواحد الذي لا كثرة فيه بوجه لا بقسمة ولا بغيرها مع اتصافه بالعظمة ليخرج الجوهر الفرد وهو أيضًا الذي لا يتثنى، أي لا ضد له ولا شبيه، فهو سبحانه وأحد بالمعنيين على الإطلاق لا بالنظر على حال ولا شيء، قال الإمام أبو العباس الاقليشي في شرح الأسماء: هذه حقيقة الوحدة عند المحققين، فلا يصح أن يوصف شيء مركب بها إلا مجازًا، كما تقول: رجل واحد، ودرهم وأحد، وإنما يوصف بها حقيقة ما لا جزء له كالجوهر الفرد عند الأشعرية غير أنك إذا نظرت فوجدت وجوده من غيره علمت أن استحقاقه لهذا الوصف ليس كاستحقاق موجده له، وهو أيضًا إنما يوصف به لحقارته، وموجده سبحانه موصوف به مع الاتصاف بالعظمة، فاتصافه بالوحدة على الإطلاق، واتصاف الجوهر بالنظر إلى عدم التركب من الجسم مع أن صحة اتصافه بأنه جزء يزيل عنه حقيقة ذلك، والوحدة أيضًا بالنظر إلى المعنى الثاني وهو ما لا نظير له لا تصح بالحقيقة إلا له سبحانه، وكل ما نوعيته في شخصيته كالعرش والكرسي والشمس والقمر يصح أن يقدر لها نظائر، وله معنى ثالث وهو التوحد بالفعل والإيجاد، فيفعل كل ما يريد من غير توقف على شيء، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الأول ناظر إلى نفي إله ثان، وهذا ناف لمعين ووزير، وكلاهما وصف ذاتي سلبي، والحاصل أن النظر الصحيح دل على أن لنا موجدًا واحدًا بمعنى أنه لا يصح أن يلحقه نقص القسمة بوجه من الوجوه وبمعنى أنه معدوم النظير بكل اعتبار، وبمعنى أنه مستبد بالفعل مستقل بالإيجاد ومتوحد بالنصع متفرد بالتدبير، قضى بهذا شاهد العقل المعصوم من ظلمة الهوى وكثافة الطبع، وورد به قواطع النقل ونواطق السمع، ولهذا كان من أعظم الحق دعاؤه سبحانه لجميع الخلق، وكانت دعوة رسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم للخلق كافة، وقال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في آخر شرحه للأسماء في بيان رد الأسماء الكثيرة إلى ذات واحدة وسبع صفات: الأحد المسلوب عنه النظير، وقال في الشرح المذكور: الواحد هو الذي لا يتجرى ولا يتثنى، أما الذي لا يتجزى فكالجوهر الواحد الذي لا ينقسم فقال: إنه وأحد- بمعنى أنه لا جزء له، ولذلك النقطة لا جزء لها، والله تعالى وأحد- بمعنى أنه يستحيل تقدير الانقسام في ذاته، وأما الذي لا يتثنى فهو الذي لا نظير له كالشمس مثلًا فإنها وإن كانت قابلة للانقسام بالوهم متحيزة في ذاتها لأنها من قبيل الأجسام فهي لا نظير لها إلا أنه يمكن أن يكون لها نظير، وليس في الوجود موجود يتفرد بخصوص وجوده تفردًا لا يتصور أن يشاركه فيه غيره أصلًا إلا الواحد المطلق أزلًا وأبدًا، والعبد إنما يكون واحدًا إذا لم يكن له في أبناء جنسه نظير في خصلة من خصال الخير، وذلك بالإضافة إلى أبناء جنسه وبالإضافة إلى الوقت إذ يمكن أن يكون في وقت آخر مثله، وبالإضافة إلى بعض الخصال دون الجميع، فلا وحدة على الإطلاق إلا لله تعالى، وقال الإمام محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في مقدمة كتابه الملل والنحل: واختلفوا في الواحد أهو من العدد أم هو مبدأ العدد وليس داخلًا في العدد، وهذا الاختلاف إنما ينشأ من اشتراك لفظ الواحد، فالواحد يطلق ويراد به ما يتركب منه العدد، فإن الاثنين لا معنى له إلا وأحد، تكرر أول تكرير، وكذا الثلاثة والأربعة، ويطلق ويراد به ما يحصل منه العدد، أي هو علته ولا يدخل في العد أي لا يتركب منه العدد، وقد تلازم الواحدية جميع الأعداد لا على أن العدد تركب منها بل وكل موجود فهو جنسه أو نوعه أو شخصه وأحد يقال: إنسان وأحد، وشخص وأحد، وفي العدد كذلك فإن الثلاثة في أنها ثلاثة واحدة، فالواحدة بالمعنى الأول داخلة في العدد، وبالمعنى الثاني علة العدد، وبالمعنى الثالث ملازمة للعدد، وليس من الأقسام الثلاثة قسم يطلق على البارئ تعالى معناه: فهو واحد لا كالأحاد أي هذه الوحدات والكثرة منه وجدت ويستحيل عليه الانقسام بوجه من وجوه القسمة- انتهى، وهو واحد أيضًا بنفسه لا بالنسبة إلى ثان بوجه من الوجوه، وقال بعضهم: الواحد يدل على الأزلية والأولية، لأن الواحد في الأعداد ركنها وإظهار مبدئها، والأحد يدل على بينونته من خلقه في جميع صفاته ونفي أبواب الشرك عنه، فالأحد بني لنفي ما ذكر معه من العدد، والواحد اسم لمفتتح العدد، وقال الإمام أبو حاتم محمد بن مهران الرازي في كتابه الزينة، قال بعض الحكماء: إنما قيل له سبحانه (واحد) لأنه عز وجل لم يزل قبل الخلائق متوحدًا بالأزل لا ثاني معه ولا خلق، ثم أبدع الخق، فكان الخلق كله مع احتياجه إليه سبحانه محتاجًا بعضه إلى بعض ممسكًا بعضه بعضًا متعاديًا ومتضادًا ومتشاكلًا ومزدوجًا ومتصلًا ومنفصلًا، واستغنى عز وجل عن الخلائق فلم يحتج إلى شيء فيكون ذلك الشيء مقرونًا به لحاجته إليه ولا ناواه شيء فيكون ذلك الشيء ضدًا له نصرًا به، فيكون ذلك الضد والقرين له ثانيًا، بل توحد بالغنى عن جميع خلقه لأنه كان قبل كل شيء، والأولية دلت على الوحدانية، فالواحد اسم يدل على نظام وأحد يعلم باسمه أنه وأحد ليس قبله شيء:
|